من الوهلة الأولى، كان كل منظر جامد أو متحرك يستأثر باهتمامه، في هذه المدينة الفرنسية الصغيرة البيضاء " سات " . لا تسمع حسيسها رغم الحركة الدءوبة للناس والسيارات.
بعد نزوله من الباخرة التي قضى فيها ستا و ثلاثين ساعة، ودّ لو يجثم على ركبتيه و يلثم الأرض. هكذا بدت له الفكرة سخيفة .
من حديقة عمومية، هاتف أحد أصدقائه وأنبأه بوصوله في ذلك الصباح الصيفي، حيث طلع قرص الشمس باهتا مغسولا من سطوة حر يوليوز الضفة الجنوبية التي خلفها وراءه . خلفها تتلظى فوق مرجل نار مجوسية. ركب سي حسن البحر هاربا من نتانة عرق وطن تعفر بالتراب . هاربا من الطلبات اللا متناهية لأسرة تحولت إلى نهر غاضب جرف زهور عمره. جمع مالا و عدّده . وأقسم بأغلظ الأيمان أن يسافر هذا الصيف إلى فرنسا .. وبرّ بقسمه وركب البحر المتوسط . كان أزرق اللون هادئا وديعا غير عابئ بتلك الباخرة المتوسطة تمخر عبابه بعشرين عقدة في الساعة. تنساب كدلفين . قضى أكثر أوقات الرحلة فوق ظهر السفينة ماشيا أو قاعدا أو باحثا عن أنس عابر .. منذ أن دخل السفينة سمع ربانها يطلب من المسافرين اعتماد التوقيت الصيفي الأوربي، بإضافة ساعة زمنية إلى التوقيت المحلي، والتوقف عن التعامل بالدرهم . خرجت من فمه كلمة " تبخيس " دون شعور .
كان سي حسن يتردد على حانة السفينة كلما شعر بجفاف حلقه . يحتسي الجعة قدر ما يبلل حلقه و يدخن سجائر من نوع " أولمبيك الزرقاء ". تبغ أسود بنكهة رائحة القار.
يوم الوصول استفاق من نومه باكرا، ليتمتع برسو السفينة على الرصيف ويشاهد المدينة الصغيرة تتمطط كطفلة في مهدها .. لا حظ النظافة والنظام ، كيف تسربلت بهما المدينة البيضاء كأنثى نورس .قال لنفسه
" النظام وليد الحضارة " . حاول أن ينتظم في مشيته ونظراته للناس . ألا يرشق المارة بنظراته الزائغة المعهودة . وأن ينصرف إلى قراءة كتاب أو مجلة كما يفعلون . لاحظ كيف ينصرف الناس إلى أعمالهم في عجالة . لا يتبادلون التحايا ولا يكلمون بعضهم البعض .
بعد ساعتين قضاهما في الحديقة الصغيرة ينتظر، أخرجه من سهو الانتظار نداء صديقه:
" أهلا بسي حسن " .
تعانق وصديقه طويلا ، ثم قفزا في سيارة صغيرة. منذ دخول الطريق السيّار عاندت السيارة امتداده الطويل .. لاحظ الصديق صمت سي حسن على غير عادته ، فسأله :
- ما بك يا عزيزي ؟ أأنت في لحظة تأمل ؟
ردّ سي حسن وقد غلبه الحياء مما وقع له في الحديقة الصغيرة . سرد على صديقة الحكاية فضحك .
وقت انتظار صديقه ، استلّ سي حسن آخر سيجارة من علبة السجائر وكومها جيدا في بطن راحته
ورمى بها أرضا، ولم يأبه لعجوز قاعدة جنبه في الكرسي المقابل. كانت تحتضن قطتها في حجرها
وتمسح على فروتها. والقطة تموء مواءً مخنثا .. شاهدت العجوز كيف رمى سي حسن علبة السجائر مجعدة على أرضية الحديقة النظيفة . وضعت قطتها في سلتها، وقامت متثاقلة تجر خطاها. انحنت بصعوبة والتقطت علبة السجائر المكومة واتجهت إلى صندوق قمامة معلق في عمود حديدي واطئ
ورمتها وعادت إلى جلستها ومداعبة قطتها .
أحس سي حسن بحبات العرق تنزل على صدغيه باردة كحبات بَرَدٍ . كزّ على أسنانه وضرب بقبضته اليمنى على بطن كفه الأيسر و قال لنفسه " درس صامت " .